ونحن نبحث في تاريخ النادي المصري ، وجدنا مقالًا يتحدث عن تاريخ النادي المصري للأديب الراحل قاسم مسعد عليوة ، ذلك الأديب والمفكر الموسوعي والذي رحل عن عالمنا في شهر يناير من العام 2014 ، بعدما أمتع الجميع بالعديد من الأعمال الأدبية التي تبلور معظمها حول معشوقته بورسعيد ، تلك المدينة التي وصفها دومًا بالمدينة الاستثناء ، تعالوا معنا لقراءة هذا المقال الذي يستحق أن نحتفي به ونقرأه بعناية ونحن نحتفي بمئوية نادينا العريق.
المقال :
احتكر الأجانب ـ أو كادوا ـ لعبة كرة القدم فى بورسعيد منذ العام 1869م حتى العقد الثانى من القرن العشرين، ولم يكن للوطنيين فيها من نصيب سوى الفرجة أو اللعب غير الرسمي فى مناطق متربة ليس فيها من متطلبات هذه اللعبة سوى كونها مستوية وتسع حركة اللاعبين وتستوعب التفاف الجمهور من حولهم، وهي فى الغالب مناطق قاحلة مهملة، كالمناطق الجافة على حواف المستنقعات المتصلة ببحيرة المنزلة أو المساحات المنسرحة بشاطئ البحر، لكن المكان الأبرز الذى اتخذه الوطنيون ملعباً لهم فى بدايات القرن العشرين ـ ولا مدعاة للاندهاش ـ هو حوش الجبانة القديمة، وكان موقعها إلى الجنوب الشرقي لحي العرب، في المنطقة المطلة على شارع محمد علي بمواجهة محطة السكك الحديدية (تحولت هذ المنطقة فيما بعد إلى ماشينة للثلج وورشة وجراج للمحافظة وأصبحت الآن منطقة للأبراج السكنية). أعلم أن البعض قد يستهول أو يستنكر، أو حتى يشفق على أولئك الذين لم يجدوا مكاناً لممارسة الرياضة إلا في حوش الجبانة، لكن الأمر لا يستدعي أياً من هذه المشاعر، فالأوضاع كانت شديدة الإجحاف بالوطنيين داخل بورسعيد في ذلك العهد، ولم تكن تسمح لغير المستعمرين والأجانب وكبار رجال الدولة بالتنعم برغد العيش، أما أهالي “قرية العرب”، التي أضحت “حى العرب”، ففي الفقر ظلوا يتعثرون، وحوش الجبانة هو أكثر الأماكن تعبيداً، وهو ـ وهذا هو الأهم ـ الأكثر قرباً من المدينة التي تحتلها الجاليات الأجنبية، وهو أيضاً الأقرب إلى ناديي فيرتوس الإيطالي وهيسبيريا اليوناني، فمكان الأول كان ـ كما سمعت من ذوي ـ هو نادي المريخ الحالي، ومكان الثاني هو نادى الشرطة الذى تحول بدوره إلى أبراج سكنية بشارع محمد علي . كأنما أراد الوطنيون باختيارهم هذا الحوش ملعباً لهم إثبات وجودهم فى الميدان الكروي، وتحدي الوجود الأجنبى، لاسيما أن التحدي هو السمة التى كانت ـ ومازالت ـ هى السمة الأبرز فى سلوك البورسعيدية الأصلاء. إنه التحدي الذي درج عليه الوطنيون ضد الوجود الأجنبي، وضد الظلم والاستبداد، وسوف نعرض لبعض صور هذا التحدي بعد قليل، لكن قبل أن نعرض لها يهمني أن أقول إن لعب الكرة لم يكن من قبيل التحدي فقط، فهناك المتعة التى تحققها هذه اللعبة للشعبيين والفقراء الذين وجدوا فيها مادة رخيصة للتسلية، وتدريباً طيعاً للصحة البدنية. ولعله من الضروري بمكان تصحيح خطأ شائع ربط بين تفشي الاهتمام بكرة القدم فى مصر عموماً، وبورسعيد على وجه الخصوص، بالاحتلال البريطاني وبمقاومة هذا الاحتلال فى الميدان الرياضي، فالأمر لم يكن هكذا بالضبط. نعم كان هناك رابط بين ممارسة المصريين لكرة القدم والدوافع الوطنية والسياسية، لكن هذا حدث بعد الاحتلال البريطاني بسنوات ليست بالقليلة. إن الأسباب الحقيقية لانتشار هذه اللعبة فى مصر عموماً، وبورسعيد على وجه الخصوص، إنما تعود إلى طول حرمان الشعب المصري من مزاولة لعبة هم مخترعوها بشكل أو بآخر، والنقوش المصرية القديمة وعلم المصريات وشهادات العلماء تثبت هذا، فلما عادت إليهم الكرة – تلك الدائرة المستديرة ـ وشاهدوها تتحرك بين أقدام الإنجليز والأجانب إذا بهذا الحرمان يتبدد. معنى هذا أن الانتشار الشعبى للعبة التى صاحبت الوجود الأجنبي لاسيما الوجود الانجليزي العسكري بمصر وبمنطقة قناة السويس وبورسعيد لم يكن ـ فى البداية ـ بغرض المقاومة أو سعياً من الوطنيين لإلحاق الهزيمة بالمحتل فى ميدان الكرة ما دامت هزيمته فى ميدان القتال غير متاحة أسبابها، على العكس كانت البداية مصحوبة بالانجذاب والابتهاج. الانجذاب إلى اللعبة، والابتهاج بسهولة قواعدها وقلة إن لم يكن انعدام تكلفتها. لذا تعلق بها الكبار والصغار ومارسوها حيثما وكيفما تيسر لهم إلى أن هلت مواسم الغضب والمقاومة والتحدي. وكان الظن عند البريطانيين والأوربيين الذين استوطنوا مصر أن كرة القدم ستلهي المصريين عن المطالبة بحقوقهم، فلا يطاردونهم بغية إخراجهم من البلاد، لذا فعلوا مع المصريين ما فعلوه مع سائر الشعوب المحتلة.. صدروا لهم كرة القدم.. لكنهم غفلوا عن حقيقة الشعب المصري، ولم يفهموا تاريخه ولم يعرفوا نفسيته. لقد كان المصريون جاهزون تماماً لاستقبال تلك اللعبة، لكنهم مع تمتعتهم بخلة الصبر لا يقبلون الضيم ولا استغفال، لذا كانت ثورة 1919م، وكانت أعمال التحدي والمقاومة للغريب والغازي؛ وفي بورسعيد غير تأجج الروح الوطنية ضد الاحتلال وتداعي الأوضاع بعد الحرب العالمية الأولى، كان لاتساع الهوة الطبقية بين الوطنيين والأجانب سبباً فى اتجاه الشعبيين وأبناء الطبقة الوسطى إلى كرة القدم لإثبات وجودهم والتفريج عن أنفسهم وإعلان قدرتهم على التحدي. لقد مارس المحتلون والمستوطنون الأجانب رياضات أخرى إلى جانب رياضة كرة القدم، كالتنس مثلاً والفولي بول والسباحة، لكن الوطنيين لم يهتموا بها اهتمامهم بكرة القدم للأسباب التى ذكرتها آنفاً. لعب الوطنيون – كما قلت ـ مبارياتهم الكروية على حواف المستنقعات وعلى شاطئ البحر وداخل حوش الجبانة في حين تمتع الأجانب بأنديتهم وملاعبهم المؤهلة، بمقاييس ذلك الوقت، تأهيلاً حقيقياَ يتيح لفرقهم أداء مباريات حقيقية، ولجمهور هذه الفرق الاستمتاع بمشاهدتها. غير ناديي فيرتوس الإيطالى وهيسبيريا اليونانى كانت ببورسعيد أندية أخرى منها نادى الاشكاربيه الفرنسي ببورفؤاد، وأبيس المالطي، ولعبت فرق الجيش الإنجليزى التى كانت تمارس مبارياتها في معسكراتها ببورفؤاد وبورسعيد (الجولف) دوراً كبيراً في إشعال نيران المنافسات مع غيرها من الفرق، وفى تكريس شعبيتها داخل المدينة. في الشوارع المرصوفة بتراب الفحم أحياناً والحجر الجيري أخرى بحي العرب والمناخين، وأمام المدارس التى كان أغلبها يفتقد الأحواش، انطلق الصبية يلعبون كرة القدم بـ”الطزَّة” و”الكرة الكياس” و”الكرة الشراب”، لينمو من بينهم أشبال بورسعيديون يجيدون المهارات الفنية التي تستلزمها اللعبة، وبالتدريج تنامى اهتمام أفنديات الطبقة الوسطى بها، وما لبث أن لحق بهم البكوات والباشاوات، لينشأ فى أوج الحرب العالمية الأولى (1914م.- 1918م.)، بعد عامين من هجوم الأتراك الفاشل على ترعة السويس (قناة السويس) وعام واحد من هزيمتهم الثانية في رمانة، أى في أجواء الحرب والقتال، أول ناد رياضي للوطنيين من أبناء المدينة، أسسه موظفو البلدية والجمارك والبوستة، وقد اكتسب النادي اسمه من مؤسسيه، فبما أن جُل هؤلاء المؤسسين من الموظفين، فقد أصبح اسم النادي (نادي الموظفين). كان هذا في العام 1917م. ومؤسس النادي هو أحمد بك جاربو، وفي ذات العام أنشأ عبد الرحمن باشا لطفي ومحمد أفندي موسى، نادياً آخر هو النادي الأهلي. حدثتك عزيزي القارئ عن التحدي الذي وسم ولا يزال يسم الشخصية البورسعيدية، ووعدتك بعرض بعض صور لهذا التحدي، من هذه الصور أن بورسعيد هى المدينة الأولى، بل الوحيدة، فى مصر والعالم العربى التى تبلورت فيها المواجهة بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية في حيين متقابلين هما حيا العرب والإفرنج، أقصد بهذا أنها المدينة الوحيدة التى حمل حي فيها اسم العرب ليواجه حياً آخر للأجانب اسمه حي الافرنج لتبرهن على تقابل ثقافتين.. ثقافة العرب إذ تتحدى ثقافة الفرنجة، وبعدما كانت السيطرة للثاني أضحت للأول بعد صراع كفاحي مرير. أما لماذا سُمي حي الوطنيين بحي العرب وليس بحي الفلاحين أو الأُجراء أو أى اسم آخر؟.. فالإجابة كامنه فى كلمة التحدي؛ وهى أيضاً المدينة المصرية العربية الوحيدة التى فعلت ما لم تفعله أية مدينة مصرية أو عربية أخرى بإقرانها العروبة بالسيادة عند تسميتها لأغلب أبنائها، فمن تسميه بـ”العربي” لابد أن يُسبق بـ”السيد”، ومن تسميه بـ”السيد” لابد أن يُتبع بـ”العربي”، حتى إنْ اقتصرت شهادة الميلاد على واحدة فقط من هاتين المفردتين، وما أكثر “السيد العربي” في هذه المدينة. إنَّ من يتسمون بهذه التسمية المُرَكَّبة، وأكاد أقول بهذه الصفة، مثلوا ـ وقت التواجد الأجنبي بها ـ الأكثرية الكاثرة، وبترديدها هذه الأسماء/الصفات في فضاءات شوارعها وبين جدران مبانيها قاومت الأجنبي بقدر ما عايشته. إنه التحدي. وفي ذات الاتجاه ابتكرت الشخصية المائزة.. شخصية “أبو العربي”.. لكأنها قصدت أن يصبح أباً لكل العرب.. شخصية: وثابة، شجاعة، مواجهة، مقاتلة، فنانة، منطلقة، مرحة، وتقدس فوق هذا وذاك علاقات الأسرة والجيرة والزمالة.. هل بعد هذا من خصائص وصفات يحتاج إليها المصريون والعرب؟.. لكن شاء الهدَّامون الباغون في زمن الانعطافة السالبة الكبرى ـ انعطافة السبعينيات من القرن الفائت ـ أن ينالوا من هذه الشخصية فطعنوها بالباطل فى كل خصيصة وصفة تتمتع بها، وجعلوها مادة للتندر والسخرية، وأطلقوا عليها بكل فجاجة النكات تلو النكات، غير أنها ـ مع كل هذا ـ لا تزال تمارس وجودها الحي الفاعل، وتواجه التشوهات التى لحقت بالمدينة. إنه التحدي. ومن صور هذا التحدى أنه حينما فكر الوطنيون فى دمج ناديي (الموظفين) و(الأهلي) فى ناد جديد لم يجدوا اسماً يفضل اسم (المصري). إنه التحدي، وإنها المقاومة.. التحدي للأجنبي والمقاومة للمحتل. تحد ومقاومة تعتمدان على الاعتزاز بالهوية.. فهذا ناد مصري.. ناد للمصريين الأصلاء. ناد يواجه ولا يذعن، يتحدى ولا يخضع. ظهر النادي المصري للوجود فى العام 1920م، وإمعاناً فى التحدي اتخذ من لون العلم المصري الأخضر وقتذاك لوناً له وعلامة عليه، لُونت به ملابس لاعبيه واصطبغت به الراية التى علت مدرجاته. إنه لون الفخار.. لون العلم الذى رفعه الشعب المصري الثائر فى العام 1919م. لواءً وشعاراً. وواقع الأمر أن النادى المصري لم يكن وحده الذى استن هذه السنة، فقد استنها قبله نادي الاتحاد السكندري، فاتخذ من لون ذات العلم المصري الأخضر لوناً له، وكذلك فعلها النادي الأهلي وكان لون العلم المصري وقت مزاولته لكرة القدم أحمر فاتخذه لوناً له. أول مجلس إدارة للنادي المصري ولد ناهضاً، وتشكل بالانتخاب ممن يمكن وصفهم بأعيان المدينة وأبناء طبقتها المتوسطة، فتولى رئاسة المجلس أحمد بك حسني (وكيل المجلس البلدي وقتها)، واختير يوسف بك لهيطه ليكون وكيلاً له، ومحمد إبراهيم عطا الله ليكون سكرتيراً، ونيقولا تكلا أمينا للصندوق، ومن بين الأعضاء: عوض بك فقوسه، عبد الرحمن باشا لطفي، ومحمد أفندي موسى. وفي العام ذاته، أي فى العام 1920م، خصص المجلس البلدى قطعه أرض خالية بجوار حديقة سعد زغلول لتكون ملعباً له. كان ملعباً مستطيلاً يحاذي حديقة سعد زغلول من جهة الشمال، ولي ولأبناء جيلي مع هذا الملعب ذكريات، لا توصف بغير الحميمية، أرجو أن تتاح لي فرصة ذكرها. منذ نشأته، والنادي المصري في مقدمة الأندية التي أبت إلا أن تقاوم الاحتلال البريطاني لمصر بكرة القدم مثله مثل أندية الأهلي والزمالك والاتحاد السكندري، كان النضال السياسي محتدماً في ذلك الوقت، وكانت كل الأقنعة قد سقطت عن أوجه الإنجليز فبانت وجوههم القبيحة، ومثلهم بانت سوءات الجاليات الأجنبية التي تمادت في استنزافها لمقدرات المصريين واستعلت عليهم وتكبرت. وفي سبيل تعظيم هذه المقاومة لعب النادي المصري دوراً هاماً هو والأندية الوطنية، وما أقلها وقتها، من أجل إنشاء وتعزيز دور ومكانة الاتحاد المصري لكرة القدم في العام 1921م. مما أنعش لدى المصريين شعوراً بالزهو لأنهم صاروا يديرون شئون الكرة في بلادهم بأنفسهم، وكان النادي المصري هو النادي الوحيد بمنطقة قناة السويس المسجل في اتحاد الكرة المصرية. ومن الأمور اللافتة للانتباه أنه من بين 25 نادياً رياضياً أسسوا هذا الاتحاد لم يبق صامداً منها للآن سوى أربعة أندية، المصري أحدها، والأندية الثلاثة الأخرى هى: الأهلي والزمالك والاتحاد السكندري. وتستمر مسيرة طويلة للنادي الذي ارتبط بوجدان أهالي بورسعيد، مزق فيها شباك الأندية الأجنبية التي كانت موجودة بالمدينة هى ومنتخباتها وألحق بها هزائم شهيرة منها هزيمته لمنتخب الأجانب الذى ضم لاعبين من فرق هيسبيريا وفيرتوس وأبيس في العام 1925 بهدفين نظيفين.